سبعة دروس من وباء كورونا

الوباء اليوم

في وقت كتابة هذه المقالة، نكون قد أتممنا عامين تقريباً منذ بدء التحرّك الفعلي لمواجهة وباء كورونا، وذلك منذ الإغلاق التام (بسلطنة عُمان، وغيرها من دول العالم) في شهر مارس من عام ٢٠٢٠.
ونحن الآن، على ما يبدو، في طريقنا للخروج من الوباء، والحمدلله.

وماذا عسانا أن نقول عن وباء كورونا؟!
فهو ليس بغريب على أحد، وقد لامس حياة كل إنسان على وجه الأرض.

فقد تم تسجيل، حتى تاريخ اليوم، أكثر من ٤٠٠ مليون إصابة، وما يقرب من ٦ ملايين حالة وفاة حول العالم
(المصدر)

وقد تغيّر نمط الحياة بشكل كبير – خاصةً في فترة اشتداد الوباء – وتعرقلت خطط الناس وآمالهم وأعمالهم. وتأثّرت كذلك نفسياتهم ومشاعرهم.

الخط الزمني للوباء

كانت بداية الوباء في نهايات عام ٢٠١٩ وبدايات عام ٢٠٢٠. الكل كان يتابع الأخبار عن تأثر الصين، وما قامت به من اجراءات مشددة لمواجهته.

وثم تابعنا تأثر بعض الدول الأخرى، ككوريا الجنوبية وتعاملها الذكي. ومن ثم اصيبت أوروبا، وخاصةً إيطاليا، ورأينا التأثير الكبير هناك وعدد الوفيات المهول والمؤلم.

ومع انتشار حالات الإصابة والوفاة وازدحام المستشفيات حول العالم، بدأت الدول، الواحدة تلو الأخرى، بالتعامل الجاد مع الوباء. فشهدنا تعيين اللجان الوطنية، وتتابع الاغلاقات.

فتغيّر حال الناس من مراقبين لآلام الآخرين (في الصين وإيطاليا وغيرها)، إلى متأثرين بشكل مباشر وحادّ!

وقد حصل هذا التغيّر الكبير بشكل مفاجيء مما أخذ الناس على حين غرة!
فأعلن الكثيرون عدم تصديقهم بأن الوباء حقيقي! واعتقد آخرون أن هناك مؤامرة عالمية من نوع ما!

وبدأت كذلك مشاعر المقاومة للتغيير المفاجيء والكبير في نمط الحياة.. الحياة التي اعتاد عليها الناس ولا يريدون تغييرها، وخاصةً بسبب أزمة عالمية جديدة وغامضة عليهم!

وبعد شهور على هذه الحالة، بدأت الأخبار المبشّرة بتوصل بعض الشركات العالمية للقاحات فعّالة ضد الفيروس.
فاستبشر الناس بقدوم حل آخر أكثر استدامة، عوضاً عن حل الإغلاقات ذو التأثير المحدود والمؤقت.

ولكن صدمة الوباء لم تكن قد اختفت بعد، فبدأت عملية التشكيك من جديد، وهذه المرة في حقيقة اللقاحات، والاعتقاد بأنها مؤامرة أخرى!

ولكن الدول مضت قدماً، وتم – حتى تاريخ كتابة المقالة – توزيع حوالي ١١ مليار جرعة من اللقاحات حول العالم. المصدر

وأذكر أننا في عُمان كنا قد وصلنا لذروة التأثر بالوباء في صيف ٢٠٢١، فأعداد الوفيات اليومية قد وصلت إلى حوالي ٤٠-٥٠ حالة، ومجمل حالات العناية المركزة في وقتها قد تجاوزت ال٥٠٠، مقارنة بسعة إجمالية مقدارها ١٢٠ سرير قبل الوباء!

ولكن مع انطلاق العملية الصعبة لتوزيع اللقاح، بدأت الحالة الوبائية في تحسّن ولله الحمد.

وبعد ذلك ببضعة شهور، تعب فيها الناس وأُجهدوا، اشتد تأثير متحور “دلتا” وبدا وكأنه سيُرجعنا إلى المربع الأول! ومن ثم – برحمة من ربنا – أتى متحوّر أوميكرون. وقد كان أسرع انتشاراً، ولكن مع درجة خطورة أقل بشكل واضح من سابقيه.

وهانحن الآن نشهد، ولله الحمد، بداية انحسار الوباء وعودة الحياة تدريجياً لطبيعتها، مع ضرورة أخذ شيء الحذر وعدم تعجّل الفرج.

والسؤال الأهم في هذه المرحلة ولما بعدها، ماذا تعلّمنا من الوباء؟ وماذا استفدنا من هذه التجربة؟

أقدّم لكم اخوتي سبعة دروس تعلّمتها من الوباء وتأمّلت فيها كثيراً خلال السنتين السابقتين.

الدرس الأول: الفيروس آية من آيات الله

لقد تكّبر الإنسان.. ورأى أنه قد تمسّك بزمام الأمور على الأرض..
“.. وظن أهلها أنهم قادرون عليها..” (يونس، ٢٤)

وبلغت الاكتشافات العلمية مبلغها..
ونمت القدرات التكنولوجيا إلى آفاق لم نكن نحلم بها
“كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى” (العلق، ٦-٧)

ثم أتت قدرة الله!

لقد أرسل إلينا مخلوقاً لا يُرى بالعين المجردة..
فتوقفت الأرض! أو كادت!!

أُلغيت رحلات الطيران.. وقعد الناس في بيوتهم..
وتعطلت المصالح.. وخسرت الشركات..

وتأثّرت كل دول العالم!
واستمر الأمر لعامين اثنين (حتى الآن!)
حتى تغمّدنا الله برحمته من خلال متحور أوميكرون وما سبقه من لقاحات فعالة، وما لذلك من أثر في تقوية المناعة المجتمعية ضد المرض.

إذا كان فيروس صغير لا يُرى، قد فعل كل هذا، فما أدرانا بما وراءه من جنود الله؟!

بل، وما أدرانا بما جهّزه الله للعاصين في جهنّم!

اللهم إنا نعوذ بك من غضبك..

الدرس الثاني: تعلّم الإيثار

لقد رأينا أن الوباء قد فتك بحوالي ٦ مليون إنسان خلال سنتين، وأدخل ملايين غيرهم المستشفيات لصعوبات في التنفس وأعراض حادة أخرى..

ولكن كان هناك تساؤل مشروع يقول ما مدى خطورة الوباء الفعلية على حياة الفرد؟

لقد أشار العلماء والأطباء أن احتمال وفاة الفرد الواحد بوباء كورونا ضعيف نسبياً، وبخاصةً إن لم يكن من الفئات العالية الخطورة أو من كبار السن..

ولهذا، فإنه من المنطقي أن تحس النفسُ بشيء من الأمان، أو أن تقلِّل من أهمية الاجراءات المستحدثة والحادة..

ويمكن للسان الحال حينها أن يقول، “كيف تلزموني البيت، وهذا الكمّام، وتقيّدون حريتي، والوباء ليس مهدداً لحياتي أنا؟”

ولكن في المقابل، فقد رأينا خطورة الوباء على نسبة من اقاربنا ومعارفنا وعلى الآلاف في بلادنا والملايين حول العالم، فَعَلِمنا أن الوباء – وإن قلّت خطورته على الفرد منا – هو خطرٌ بالفعل على كبار السن وفئات أخرى.. وقد رأينا كذلك كيف ازدحمت المستشفيات وكيف تعرضت الطواقم الطبية لضغوط عالية لفترات طويلة..

وهنا.. تعلّمنا الإيثار بشكل عملي وحقيقيّ..

وكان لسان الحال يقول، “نعم، الإجراءات صعبة ومتعبة، ولكنّي سألجم رغباتي في سبيل حفظ المجتمع وحماية الغير، حتى يفتح الله علينا”

وبهذا قُدِّر لنا أن نستشعر الآية القرآنية:
“.. ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة..” (الحشر، ٩)

الدرس الثالث: فهم وتطبيق التوكل على الله

الوباء قد حضر وأصاب وأمات الكثيرين..

وأصدرت اللجان الوطنية والمنظمات والمؤسسات الصحية قائمة بالاحترازات والاجراءات المطلوبة، أبسطها لبس الكمام، والمباعدة الإجتماعية، وتطهير اليدين، وأصعبها الإغلاقات قبل وصول اللقاح..

ولكن رفضت فئة من الناس – منذ فترة شدة الوباء – اتباع الاحترازات والاجراءات، وطالبت بحياة “عادية”، بحجة أن كل شيء مكتوب وأن الموت إن لحق بك فهو قضاء وقدر.

لا شك، أخي، أنه لا يحدث شيء في الدنيا إلا بإذن الله، وأنه تعالى قد أحاط بكل شيءٍ علما.

ولكن نهج تجاهل الخطر و”التواكل” (غير “التوكّل”) على الله، ليس هو النهج الذي ربانا عليه ديننا.

بل نهجنا واضح في قوله صلى الله عليه وسلم، “إعقِلها وتوكل” (رواه الترمذي)

فالتوكل هنا ذو شقين: الأول (وهو الجانب العملي) أن يتخذ الإنسانُ كل الأسباب الممكنة التي هداه الله إليها، والثاني (وهو الجانب الايماني) أن يعتمد على الله في النتائج ويرضى بها مهما كانت.

فالطالب يجدّ ويثابر في الدراسة بكل طاقته، ويعتمد على الله في توفيقه لحل الأسئلة والحصول على نتائج متفوقة..

وسائق السيارة يربط حزام الأمان ويحرص على اتباع إرشادات المرور، ويعتمد على الله في وصوله سالماً ونجاته من مفاجآت الطريق..

وقد حكى القرآنُ الكريم لنا قصصاً جليةً في ذلك..

فأمر الله موسى عليه السلام بضرب البحر بالعصا
وأمر أيوبَ عليه السلام بأن يركض بِرِجْله
وأمر مريمَ بأن تهزّ بجذع النخلة

فهل فَلقت العصا – بذاتها – البحرَ؟
وهل أخرجت الرِجلُ – بذاتها – الماءَ الطهور؟
وهل أَسقَطَ الهزُّ – بذاته، ومن إمرأة في المخاض! – رُطبَ النخلة؟

لا.. بل حدث كل ذلك بأمر الله وقدرته..

والدرس هنا أن يتخذ المؤمنُ من الأسباب ما أمكن، حتى في حالات الضعف ومواجهة الأخطار الجديدة، ثم يوكل نتيجة جهده على الله..

والذي أمكننا في مواجهة الوباء (خاصة في فترات شدة الانتشار)، هو التقيّد بالاحترازات والإجراءات قدر استطاعتنا، مع الإيمان واليقين بأن العافية والصحة من الله وحده..

الدرس الرابع: فهم وتطبيق معنى الصبر

حقيقةً، لقد أُختبر صبرنا إلى حد كبير..
وربما كان من أكبر الاختبارات لكثير من الناس.

فهناك من توفّى له قريب، بعد فترة غير يسيرة في المستشفى.. وهذا ابتلاء كبير، خاصةً إن لم يتمكن من وداعه في لحظاته الأخيرة أو من إجراء جنازة وعزاء طبيعيين له..

وأما بقية مليارات البشر، فقد أُبتلوا بتعطّل الحياة والمصالح، وبتقييد الحريات، وربما بشيء من أعراض المرض..

هناك من خسر تجارته..
وهناك من تعطّلت أو تعسّرت دراسته..

والكل أُختبر بتعطّل الحياة الطبيعية..
فقلّت الزيارات (أو اختفت في فترات الإغلاق)
وتقيّدت الحركة..
وتأثّرت خطط الأسفار والرحلات..
وازدادت المصاريف (الكمامات والمطهرات واختبارات ال PCR، الخ)

وتعبت بذلك النفسيات..

ولكن على المؤمن الفطن أن يقيس هذا الإبتلاء بابتلاءات أكبر لأخواننا..

فهل هذا الإبتلاء هو بحجم إبتلاء إخواننا في فلسطين، وسوريا، واليمن؟
وهل هو بحجم إبتلاء مسلمي الإيغور وميانمار؟

وهل هو بحجم سقوط الأندلس أو اجتياح التتار؟

لقد صبر اخواننا هناك، فالأولى أن نصبر نحن هنا!

قد يكون هذا الإبتلاء فرصة من الله عز وجلّ بأن نقدّم ما عندنا من قوة الصبر على البلاء والرضى بما كتبه سبحانه، ثم احتساب الأجر منه تعالى على ذلك..

الدرس الخامس: تفهّم تفاوت الناس

هناك حوالي ٨ مليارات من البشر في العالم..

صحيح أن المَصَاب واحد، وهو هذا الوباء التاريخي..
ولكن إنطباع الناس عنه وتعاملهم معه يختلف باختلافهم وبتنوعهم الكبير..

الكلّ تأثر بالوباء..
فكان من الطبيعي أن يدلي كلٌ بدلوه في الطريقة الأفضل للتعامل معه…

ومن المستحيل أن يجتمع المليارات حول طريقة حل واحدة..
بل لن يتفق بضعة الملايين في البلد الواحد، وربما حتى بضعة الأفراد في البيت الواحد!

وهذا حاصل في كل الأحوال، ولكنه واضح وضوحاً كبيراً في هذا الوباء..

فقد تعلّمنا – ولا زلنا نتعلّم! – من كورونا كيف نتناقش وكيف نتحاور، مع اختلاف الرؤى..

وتعلّمنا – إلى حدّ مقبول – كيف نواجه كمجتمع هذا الوباء بما يخفف – ولا يلغي! – من تبعاته وآثاره، سواءاً كانت صحية أو اقتصادية أو اجتماعية..

لم نتفق على كل شي.. ولم نفهم كل شيء بنفس الدرجة..
ولكن تعلّمنا – ولا زلنا نتعلّم! – كيف نخوض الطريق معاً مع تقبّل واحترام بعضنا البعض، وإبداء شيء من المرونة والتنازلات الموزونة..

الدرس السادس: الدنيا.. ما الدنيا؟

لقد انجلت، بالوباء، حقيقة الدنيا..

نعم، تعطّلت حياتنا الطبيعية.. لمدة سنتين (على الأقل!)
ولم نستطع أن نعيش كيفما نريد..

ولكن، أنسينا أن الدنيا كلها مؤقتة!
وأنها، حقيقةً، مزرعةٌ للآخرة؟

الدنيا دار عملٍ واختبار..

والفطن منّا من كان همّه رضى الله وكسب الحسنات واجتناب السيئات..

وليس الهمّ الأكبر هو بناء الحياة المثالية الخالية من الشقاء والصعوبات..

عش في الدنيا كريماً، وتنعّم بما وهبه الله لك..
ولكن، اجعل اهتمامك الأكبر هناك.. في يوم الحشر والحساب..

الدرس السابع: لعله خير

لعله خير!!

نعم، توفي الملايين، وضُرب الإقتصاد، وتعطّلت الحياة، وتأثّرت النفسيات..

ولكن.. لعله خير!!

فطوبى لك إن كنتَ من الصابرين..
“.. إنّما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب” (الزمر، ١٠)

تخيّل؟
أن يأتي يوم الحساب..
وتُعطى أنت أجرك بالكامل.. وبدون حساب؟!
يا الله، يا كريم!

ومن تُوفي، فلعله بلغ أجر الشهادة!
قال صلى الله عليه وسلّم: “… من مات في الطاعون فهو شهيد..” (رواه مسلم)

بل، وربما يُكتب لك أجر شهيد ولو كنت حياً تقرأ هذه الأسطر!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “.. فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد..” (رواه البخاري)

نعم، هذا أنت!
يا من لزِمت البيت، ولزمت البلد، وصبرت على ذلك..

وإن التزمتَ وصبرتَ، فلم تساهم في انتشار المرض، فحفظت بذلك – وبِعِلم الله – حياة إنسان لا تعرفه.. فقد يُكتب لك أجر إحياء نفس!
“.. ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ..” (المائدة، ٣٢)

الله أكبر! يا له من أجرٍ عظيم!

ومن ثم، ما أدرانا، فلعل الله ُقد أنجانا من شرورٍ أخرى بقدوم هذا الوباء؟
لعل كان للوباء مساهمة في إبطاء تأثير التلوّث على طبقات الأوزون..
ولعله أخّر أو أحبط خططاً للاعتداء على الأمة..
والله أعلم بما يخفى عنا..

فالحمد لله على كل حال..

كلمة شكر

ولا يفوتنا هنا، أن نقدّم كلمة شكر
ومعاني امتنان عميقة

لكل الأطباء، والممرضين، والعاملين في المجال الطبي..

فقد كانوا بحقّ، جنودنا في مواجهة الأزمة..
وتحمّلوا أكثر مما تحمّل أيّ منا..
وابتعدوا عن أهاليهم..
وتحمّلوا مخاطر علاج الناس، حتى في فترات شدة الوباء وعدم توفر اللقاح..

نسأل الله أن يجزيكم عنّا كل خير..
وأن يعوضكم خيراً كثيراً على ما صبرتم، في الدنيا، وفي الآخرة..

يا الله

اللهم، إنا نشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت
المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر
قيّوم السماوات والأرض ومن فيهنّ

لا حول ولا قوة إلا بك

اللهم اغفر لنا تقصيرنا
وتقبل منا صالحات أعمالنا

اللهم أعنّا على حسن التوكل عليك
وأعنّا على أنفسنا وعلى مكائد الشيطان

اللهم أفرغ علينا صبرا
ووفقنا للرضى بقضاءك وقدرك

اللهم اصرف عنا الوباء وقنا شر الداء ونجّنا من كل بلاء

وصلى اللهم وسلم وبارك على خير من صبر، وخير من توّكل وعمل، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين

فكرة واحدة على ”سبعة دروس من وباء كورونا

أثري المقالة بتعليقك